أتستطيع الأجهزة أن تفكر ؟، أتقدر الحواسيب أن تمتلك ذكاء أو وعي ؟،
أيمكنها أن تشعر ؟، هل تمثل أمخاخنا مجرد حاسوب آلي، و إن كان معقد، إلا
أنه مجرد حاسوب آلي ؟، إن نظرنا للحاضر، فسنجد أن الإجابة الحالية للأسئلة
الثلاث الأولى هي لا، فأقصى ما تستطيع الأجهزة فعله حالياً يمثل أمور آلية
لا يوجد تفكير بها، فكمثال تعطينا ناتج
2+
2=
4، لكنها لا تفكر لمَ
2+
2=
4،
أي لا تفكر في الأسس المنطقية للرياضيات، بل نضع لها تلك الأسس و القواعد
بأنفسنا و تطيعها الأجهزة بشكل كامل، لكن ماذا عن الإمكانات المستقبلية ؟.
في منتصف القرن الماضي نشر الرياضياتي
Alan Turing دراسة تتناول هذا السؤال، و كانت الدراسة تقوم على أساس إعتبار التفكير هو ما يجعلنا نميز البشر عن الآلات، لذا ف
الإختبار الأمثل هو القيام بمحادثة بين إنسان من جهة، و بين حاسوب و إنسان آخر من الجهة
الأخرى، و إن عجز الإنسان الأول عن تحديد ما إذا كان من يحدثه هو الحاسوب
أم الإنسان الآخر، يكون هذا مؤكِداً على إمكان إكساب الحواسيب القدرة على
التفكير. و أظهرت تلك الدراسة أن من الممكن فعلاً جعل الأجهزة تفكر، لكن
لهذا ثمن هام، و هو الثمن الذي أزاد
Kurt Godel من توضيحه عبر برهانه الذي غير وجه المنطق الرياضياتي، و المسمى
برهان اللاكمال.
لبرهان اللاكمال تطبيقات مختلفة في مجالات عديدة جداً، لكن تطبيقاته في
مجال دراسات الذكاء كان قوي بشكل هائل، فقبل هذا البرهان كان الخلاف بين
الإختزاليين و الكليين غير قابل للحسم، خاصة مع إنتشار التصور الثنائي عن
المخ و العقل ككيانات منفصلة، فجاء برهان
Godel ليؤكد
على إمكان جعل الأجهزة تفكر، مما قد يبدو أنه يدعم موقف الإختزاليين
القائل بأن المخ فقط هو الموجود و لا وجود للعقل، و هو الموقف الذي تتمثل
أحد أهم نتائجه في إمكان جعل الأجهزة تفكر بإعتبار أن المخ مجرد جهاز آلي
معقد، إلا أن إستكمال نتيجة البرهان يثبت خطأ موقف الإختزاليين، فلكي تصبح
الأجهزة قادرة على التفكير يجب أن تصبح قادرة على إرتكاب الأخطاء، أخطاء
بسيطة كتلك التي يقوم بها البشر، فالأجهزة الحالية لا تخطيء لأنها آلية،
تنفذ ما هو مطلوب منها بدقة و إحكام، كمثال لا يمكن لجهاز أن يخطيء في قياس
طول حائط، بينما قد يخطيء الإنسان عبر تجاهل جزء صغير من السنتيمتر.
لخاصية القدرة على إرتكاب أخطاء معنى أعمق كثيراً من ظاهرها، فهي تثبت، كما ذكر
Godel في أحد محاضراته، أن المخ البشري ليس آلة، و أنه يعمل بنوع معقد من
المعادلات الديوفانتينية التي توفر نمطية السلوك و التفكير و بذات الوقت تزيل حتميتهما، تلك المعادلات تحديداً هي ما يتسبب في ظهور العقل
كخاصية ناشئة عن المخ داعمة للحرية، و تلك الحرية، من جديد بسبب طبيعة المعادلات الديوفانتينية،
ليست عشوائية، و إنما نمطية،
و كمثال لفهم معنى النمطية و إختلافها عن العشوائية، إن أفترضنا أن تلك
الحرية عشوائية و أتينا بعشرة أشخاص ليقيسوا ذلك الجدار، فسيخرج كل منهم
بناتج مختلف كثيراً عن الآخر، سيخرج أحدهم بـ
5 متر، بينما يخرج آخر بـ
2 متر، و ثالث بـ
70 متر، بينما طول الحائط الحقيقي
10 متر، هذا لأن قياساتهم ستكون عشوائية بسبب عشوائية حرية عقولهم.
لكن بالعودة إلى الواقع و الأخذ بإثبات
Godel لنمطية الحرية بواسطة المعادلات الديوفانتينية، نجد أن قياس الشخص الأول قد يكون
10.
02 متر، و الثاني
9.
9 متر، و الثالث
10 متر
بالضبط، أي أن قياساتهم كلها تقترب من الواقع، إلا أن بها هامش خطأ ناتج
عن حرية العقل البشري، تلك الحرية التي تسمح له بإرتكاب مثل تلك الأخطاء، و
تلك هي النمطية، أي إنحصار الإحتمالات في قوائم معينة مع إستحالة معرفة
الإحتمال الذي سيحدث، و هذا بخلاف الأجهزة الآلية التي تعمل بشكل حتمي مما
يجعلها تقيس طول الحائط بدقة تامة بدون أي هامش خطأ حتى إن كررت القياس
مئات المرات.
من هنا يتناول الفيزيائي
Roger Penrose برهان
Godel-
Turing في أغلب كتبه، موضحاً أسسه الفيزيائية بعدما أوضح من سبقوه أسسه المنطقية و الرياضياتية، فيبدأ بتلخيص بسيط للبرهان في جملته :
<blockquote>‹‹
برهان Godel-Turing يعني بكلمات أخرى أن أي جهاز غير قابل لإرتكاب أخطاء يستحيل أن يكون قادراً على التفكير أو إمتلاك ذكاء ››</blockquote>
ثم يستكمل إظهار الأسس الفيزيائية عبر شرح المخ في إطار كمومي
كالذي سبق لنا إيضاحه بشكل تفصيلي، هذا الإطار الكمومي -بالإضافة لبرهان
Godel-
يثبت خطأ ثنائية المخ و العقل، و بذات الوقت يثبت خطأ الإتجاه الإختزالي
أيضاً، و يحافظ على وجود العقل، أي لا ينفي وجوده، و يجعله جزء لا يتجزأ من
التكوين الفيزيائي للإنسان. و بالعودة إلى الأسئلة التي تم طرحها
بالبداية، نجد أن أمخاخنا ليست مجرد حاسوب آلي، كما أن بإمكاننا صنع أجهزة
تفكر، ليس من المستحيل صنع حواسيب تمتلك ذكاء و وعي و قدرة على الشعور، إلا
أن صنع مثل تلك الأجهزة يتطلب أمرين، أولهما مفهومي و هو قبول جعلها قابلة
لإرتكاب الأخطاء، و الثاني تكنولوجي و هو الوصول لتقنيات تستطيع إستعمال
ميكانيكا الكم في البنية الأساسية لمعالجات الحواسيب.